Thursday, December 22, 2011

الثورة المصرية 11

الثورة المصرية (11)

في بداية العقد الثاني من الالفية الميلادية الثالثة


مرحبا...

عندما تمر بنا احداث عظيمة وتحولات كبرى فاننا عادة ما تجرفنا عواطفنا وانفعالاتنا تجاه الاحداث الجارية كما ان قدرتنا على التفكير تتوقف تماما مما يضعنا في حالة ذهنية اقرب الى انتظار النهايات المظلمة العدمية منها الى الامل في صناعة المستقبل المرجو...

ولقد تأخرت (عامدا في مرات وغير عامد في مرات اخرى) في استكمال هذه السلسة عن الثورة المصرية لعدة اسباب:

اولا: انني لاحظت مبكرا مظاهر (الانقضاض على التاريخ المصري الحديث) وكما اشرت في مدونة سابقة بانني لست متفقا مع هذا الاتجاه..

ثانيا: انني ومنذ اللحظة الاولى لم اعتبر ان الثورة المصرية هي شأن داخلي فقط..ولاني اؤمن بان ححياة مصر الحقيقية هي في الاقليم المجاور لها فانني كنت اتابع تطورات الربيع العربي في جوارنا العربي كله (سواء ذلك الذي لحق بركب الثورة او ذلك الذي مازال قابعا هناك ينتظر...)

ثالثا: ان الاحداث العصيبة التي مرت خلال تلك الفترة (تدهور الضع الاقتصادي – احداث مسرح البالون – احداث السفارة الاسرائيلية - احداث العباسية – احداث الماريناب – احداث ماسبيرو – احداث محمد محمود – احداث قصر العيني) وكل ما تخلل تلك الاحداث ( كالانتخابات التشريعية – و ثيقة السلمي – و.. و...) كانت تدفعنا كلنا الى الانفعال باكثر مما تدفعنا الى التفكير بينما كنت احاول ان افعل العكس..

رابعا: انني كنت اكتب ما اكتب وفي ذهني انني اقوم باقصى ما استطيع (وهو قليل) تجاه وطني الحبيب الذي اعطيته من نفسي ما لا يعلمه الا الله وعلى خلفية من قول النبي –ص- "...........فان لم يستطع فبلسانه......." او كما هو منسوب لسيدنا عيسى عليه السلام " قل كلمتك وامش"...لكن الذي حدث ان عدد قراء هذه المدونه ومنذ بدايه هذه السلسلة في هذه الاشهر القليله قد زاد عن الف زائر (وهو ما لم اكن اتوقعه) كما زاد عدد المناقشات حولها خصوصا من زملائي المنتظمين في احزاب و نقابات مهنية مختلفة او في منتديات سياسية (وهو ما لم اكن انتظره) مما وضعني امام تحد (ولا اقول مسؤولية) ان اساهم مع غيري بشكل اكثر ايجابية في مستقبل هذا الوطن...

واخيرا : فاننا في هذه الايام نقترب من الذكرى الاولى لهذه الثورة المجيدة كما لا يفوتنا ان اننا ايضا نمر بالذكرى الاولى لثورة تونس التي الهمت (ولا اقول اشعلت) ثورة مصرية فذة كانت البلاد حبلى بها حتى جاءها اذن السماء....

بعد هذه المقدمة (وكنت ارى انها ضرورية) اعود الى السياق الاصلي.....

كنت اود ان اتحدث عن هذه المرة عن امتداد الثورة المصرية في محيطها الجغرافي....لكن الاحداث الماضية قد شدت الجميع الى اليها وجعلت لها الاولوية على الساحة....

ومبدأيا فاني لست ممن يهونون قيمة ما حدث...لكن لدي عدة ملاحظات قبل الخوض في التفاصيل:

اولا: ان منطق الحرب الاهلية في مصر غير وارد...وذلك لان الحرب الاهلية تحدث –اذا توافرت لها عواملها الطبيعية- في تلك البلاد التي تكون فيها الدولة اقوى من المجتمع...اذ تقوم الدولة في هذا النوع من المجتمعات بصهر العناصر المكونة للمجتمع الواحد (ونموذج ذلك الدول حديثة النشأة او تلك التي مازلت في اطوارها البدائية كالصومال مثلا حيث استقلت عام 1950 اي منذ نحو 51 عاما فقط)..اما في الحالة المصرية فان المجتمع اقوى من الدولة بحكم انه اقدم كما ان من ناحية التراكم الحضاري و اكثر المجتمعات العربية تقدما في المراحل الحضارية...

كذلك ان الحرب الاهلية على غرار ما حدث في لبنان مثلافان اطرافا عربية واقليمية ودولية كانت اطرافا كل وراء حزب معين في تلك الحرب واضافة الى ان ذلك بما يخدم المصالح الاستراتيجية العليا لاسرائيل كما هو مثبت بمذكرات ديفيد بن جوريون مؤسس الدولة العبرية انه "ينبغي تحويل الجزء الجنوبي من لبنان محمية مسيحية مارونية تفصل اسرائيل عن شمال لبنان الاسلامي" اما في الحالة المصرية فان انهيار السلطة المركزية واحتدام حرب اهلية محتملة في مصر يعيد شبح الصراع المسلح غير النظامي مع اسرائيل كاحتمال وارد وذلك قد يدفع اطرافا اقليمية لاسغلال ذلك الفراغ السياسي الناشئ عن انهيار السلطة المركزية والانحياز الى فصيل معين يدير الصراع مع اسرائيل في صورة مسلحة (ولنتذكر ان الحرب الاهلية اللبنانية وضعت اوزارها بدخول الجيش السوري الى لبنان لفض النزاع في حياة الرئيس حافظ الاسد اي انه لا الولايات المتحدة ولا الاتحاد السوفييتي استطاع في ذلك الوقت شيئا بل عهد الى طرف اقليمي بتلك المهمة بينما الوضع الان اكثر سوءا فان هي الانظمة العربية القادرة اليوم عن اي فعل داخل حدودها فما بالنا بخارج حدودها)

واخلص من تلك الملاحظة الاولى ان منطق الحرب الاهلية لا تتوافر عوامله في الوقت الحالي...

ولكن منطق العنف هو الاكثر قربا

ثانيا: ان منطق تقسيم مصر غير وارد ايضا...وذلك من عدة وجوه...

اولا التوزيع الجغرافي للاقليات:

ومما هو جدير بالانتباه انه ليس هناك مناطق في مصر تسكنها اقلية دون غيرها من الاقليات او الاغلبية على السواء...وصحيح ان هناك اماكن ذات كثافة نسبية مسيحية (كمنطقة شبرا مثلا) الا انها في نهاية المطاف (كثافة نسبية وليست اغلبية نسبية)...اي انه ليس هناك توزيع للسكان في مصر على اساس ديني من الاساس (كالحالة في العراق مثلا او في لبنان مثلا)

ثانيا الظروف السياسية الاقليمية في الوقت الحالي

اولا: انعكاس موجة الثورات العربية على دول الجوار...ليبيا (من الناحية السياسية) وبعد سقوط حكم القذافي وبتماثلها الديني (اذ ليس فيها مسيحيين ليبيين تقريبا) كما انها ( من الناحية الجغرافية) مفصولة عن مصر(الوادي ) بالصحراء الغربية...اما بالنسبة الى السودان فانها (وخصوصا بعد التقسيم ) اصبحت في نفس الحالة الليبية (متماثلة دينيا) الا ان جوارها الجديد في الجنوب (جمهورية جنوب السودان) هو دولة مسيحية

ثانيا: ان التقسيم سوف يبرز على الارجح منطقتين تدينان بديانتين مختلفتين (الاسلام في الشمال و المسيحية في الجنوب) وهو يجعل في هذه الحالة المسلمين في الشمال مواجهين لاسرائيل اليهودية ويجعل المسيحيين في الجنوب مواجهين لشمال السودان الاسلامية وهو ما يجعل الاحتكاكات الحضارية بين تلك المجتمعات صراعا بين الالهة والاديان...وهذا الامر في حد ذاته هو ما حاولت الاستراتيجية العليا للغرب فيما بعد الحرب العالمية الثانية تجنبه لكي تضمن تدفق النفط من هذه المنطقة من العالم.

ثالثا: ان الدول الاقليمية المؤثرة في الشرق الاوسط (واعني على وجه التحديد ايران و تركيا والخليج) سوف تسعى جاهدة للنفاذ داخل الدولة والمجتمع المصري والتاثير على القرار المصري بما يناسب مصالحها..لكنها لن تسمح بتقسيم مصر تحت اي دعوى كل لمصالحة ..اذ ان ذلك يعني سقوط اكبر و اقدم دولة في تلك المنطقة من العالم مما يجعللها في حالة تعر امام النفوذ والمشروع الامريكي في المنطقة (في الحالة الايرانية والتركية) او امام النفوذ والمشروع الايراني في الخليج (في الحالة الخليجية)

ثالثا تعداد الاقليات في مصر

اي ان تعداد المسيحيين في مصر طبقا لاقصى التقديرات الى 15 مليونا (اي ما نسبته 18%) وهو اقل بكثير من النسبة التي اتخذ على اثرها قرار تقسيم فلسطين (كان عدد الفلسطينيين يبلغ 1.4 مليون نسمة ، مقابل 605 ألف يهودي، أي ‏بنسبة 70% إلى 30 %.... )

واخلص من تلك الملاحظة الثانية ان منطق التقسيم لا تتوافر عوامله في الوقت الحالي...

ولكن منطق الجيتو (الحي اليهودي او الانعزال الاختياري) هو الاكثر قربا

ثالثا: ان منطق التدخل العسكري لحماية الاقليات غير وارد هو الاخر...

اولا: الارهاق الاقتصادي الذي تعاني منه الولايات المتحدة

ثانيا: وبعد اعتماد اعلى نسب للمسيحيين وبعد التجربة المريرة للقوات الامريكية في العراق فان اي تدخل سوف يتطلب وكنهاية حتمية لفرض عملية التقسيم تواجدا عسكريا على الارض وليس غارات بالطائرات وهو مايضع تلك القوات (ايا كانت جنسيتها) في مواجهة شعب يفوق في تعداده ضعفي التعداد العراقي مثلا على اقل تقدير

ثالثا : ان اي عمل عسكري سوف يتم تداوله عالميا باعتباره تدخلا ضد ثورة تعتبر اروع وابرع ثورة في عالم اليوم مما هو من شأنه ان يخلق رأيا عاما عالميا ضد اي احتمال للاعمال العسكرية

رابعا: ان اي عمل عسكري من شأنه ان يعيد حالة الحرب الى المجتمع المصري الذي كانت قد انتهت منذ اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 ..وعليه فان الاتفاقية سوق تسقط من مباشرة على اثر تلك الحالة الطارئة وذلك له اثر بعيد المدى اذ يزيد من احتمالات الصراع المسلح مع اسرائيل في ظل الاتعداد العربي الحالى كاحد اثار ثورات الربيع العربي

خامسا: ان اي عمل عسكري سوف يخلق تحالفات سوف تنشأ بالضرورة مع كيانات المقاومة المسلحة في المنطقة في لبنان وسوريا وايران و غزة وهو مما يزيد حالة السيولة والفوران في المنطقة والذي قد يمتد اثره الى الخليج ويهدد جنتيجة طبيعية تركيبة السلطة والثروة فيه على حد سواء

واخلص من تلك الملاحظة الثالثة ان منطق التدخل العسكري لا تتوافر عوامله في الوقت الحالي...

ولكن منطق التواجد الدولي والضغط بالمعونات و السياسات الاقتصادية هو الاكثر قربا

بعد هذه الملاحظات العابرة....نتوقف قليلا عند التفاصيل...

وبما اننا على اعتاب الذكرى الاولى لثورة ال25 من يناير..فانه من المفيد (بل ومن الضروري) مراجعة ما جرى من بداية احداث الثورة وحتى الوقت الراهن فيما يمكن ان يكون (كشف حساب) عن السنة الاولى من عمر الثورة...

ويستقر في اعتقادي يوما بعد يوم اننا اما عملية حصار وتفريغ منظم للثورة المصرية على مختلف فئاتها الاجتماعية على المستوى الداخلى للبلاد...اما على المستوى الخارجي فاننا امام عملية هدم تدريجي للدولة المصرية وهو ما يزيد الصعوبات والتحديات ) المقبلة امام الحالة الثورية في مصر (اذا افلتت من الحصار واحتفظت بجزء من قوة اندفاعها ) وانتقلت من مرحلة الثورة الى مرحلة الدولة...

والقصد من عملية حصار الثورة هو حصر تفاعلاتها الحية داخل حدودها بحيث لا تتسرب تلك الحالة الثورية في مصر الى جوارها العربي و خصوصا الى منابع البترول (وهو الهدف الاكبر الذي استوجب ضمن ما استوجب تحطيم وطن من اعز واغلى و اقدم اوطاننا العربية وهو العراق)...وبذلك يتعطل النموذج الذي يمكن ان تقدمه مصر الى العالم...

اما القصد من عملية تفريغ الثورة فهو انهاك قوى الثورة الحية (الشارع المصري) و قواها السياسية (الحزبية الجديدة والقديمة) في معارك جانبية وفرعية حول قضايا وموضوعات واجراءات (حتى وان كانت ذات اهمية في نظر البعض) الا انها ليست ذات اولوية في الوقت الراهن...وبذلك فاننا نصبح اما مجموعة من المشاهد العبثية التي تقنع الكتله الاكبر من المتابعين للاحداث بخطورة الافكار الثورية على المجتمعات..خصوصا اذا كانت من العالم العربي...

ومما هو جلي امامي ان نفس هذه المحاولات تجري (وان بدرجات متفاوته) في كل العالم العربي وخصوصا في تونس وليبيا حتى لا يضغط نجاح هذين النموذجين على الاوضاع في مصر...لكن تلك قضيه اخرى...

وبشكل عام فان هذه المشاهد العبثية لا يصح ان تنسب كلها الى عامل واحد... او الى جهة واحدة...او الى فصيل واحد...ذلك ان السقوط في التعميم او تسطيح محددات الحركة التاريخية للشعوب يؤثر قطعا بصورة سلبية على تصورات الحل والخروج من هذا المأزق ..( (راجع مدونتي (الثورة المصرية (10) في بداية العقد الثاني من الالفية الميلادية الثالثة (محاكمة التاريخ))

وفي تقديري...انه يمكن رد تلك العناصر المحدد للصورة العامة في الوقت الحالى هي (اخطاء الثورة – الثورة المضادة – المؤسسة العسكرية ) كما يلي:

اخطاء الثورة:

الفصائل السياسية : تصورت الفصائل السياسية ان لها رصيدا في الشارع المصري تكون قادرة على تعبئته لنصرة تصوراتها ...لكن الواقع اثبت ان حواراتها سجالاتها كانت نوعا من (نقاش المثقفين)...وقد كان هذا الدور يمكن ان يكون مفيدا على المدى الطويل لو انه كان يمارس في هذا الاطار..الا ان تصور وجود ارضية في الشارع المصري حطم مصداقية اغلب الرموز السياسية ...خصوصا ان معظم تلك الرموز وفي غيبة رصيد حقيقي كانت تتحرك وراء الشارع السياسي تسترضيه في توجاهته وتبرر له افعاله في حالة اشبه ما تكون (بالمزايدة الثورية)...

اعادة بناء الدولة : والدولة المصرية الحديثة نشأت في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية و بداية الحرب الباردة على يد ثورة يوليو 1952...وبرغم انحيازي الى هذه الثورة الا ان مجمل التطورات على الساحة الدولية والاقليمية و خصوصا في الفترة الواقعة من نكسة 1967 الى انتصار 1973 استوجبت اعادة بناء الدولة (واتحدث هنا عن الدولة وليس النظام) على اسس جديدة الا ان ذلك لم يحدث حتى يناير 2011 (اي قرابة 40 عاما)...وكان اعادة بناء الدولة يتطلب مهنيين وكفاءات على اعلى درجة من القدرة على الانجاز (بصرف النظر عن ثوريتهم او تعلقهم بالنظام السابق) لان الدولة ابقى من النظام (ثوريا كان او غير ثوري) والحالة الثورية حالة طارئة بطبيعتها بينما رتابة البيرقراطية هي اساس الطبيعة ذاتها...

الدستور والديمقراطية و القرار الوطني : ذلك ان الديمقراطية في تاريخنا المصري الحديث اثبت انه لصيق باستقلالية القرار الوطني...ومن المعروف ان نشأة الحياة الحزبية المنقوصة في ظل الاحتلال الانجليزي كانت تستمد شرعيتها من سعيها الى استقلال القرار الوطني كما انه من اهم مسببات قيام ثورة يوليو 1952 هو عجز هذه الممارسات الحزبية في عهد ما قبل 1952 عن ذلك المطلب....وانبنى على ذلك ان الحركة في في اتجاه الديمقراطية والدستور كان يتصور (او يفترض) ان تحقق هذين المطلبين يرد الى الامة سلطة قرارها الوطني...وذلك صحيح على المستوى النظرى لكنه ليس صحيحا في ضوء الاختراقات السياسية والتبعية الاقتصادية لمرحلة بدأت منذ عام 1974 ( (راجع مدونتي (الثورة المصرية (3) في بداية العقد الثاني من الالفية الميلادية الثالثة (الديمقراطية))

المؤسسة العسكرية : ومن الصحيح ان نقول ان الفراغ السياسي هو ما استدعى تواجد المؤسسة العسكرية في مقدمة المشهد السياسي و ليس ان المؤسسة العسكرية نحت الفصائل السياسية وقوى الثورة جانبا...و بالاخذ في الاعتبار اخطاء المؤسسة العسكرية الا ان تلك الاخطاء اتخذت ذريعة للهجوم المتكرر (احيانا على صواب واحيانا على خطأ و احيانا كثيرة بتجاوز) على مؤسسة يستقر في عقيدتها (وهكذا يجب ان تكون) ان تقبل التوجيه من سلطة سياسية ولا تقبل النقد من مؤسسات المجتمع المدني...(وللدلالة على ذلك فان الجنرال "ايزنهاور" رئيس الولايات المتحدة الاسبق والذي قاد جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية كما انه اول رئيس لحلف الناتو وهو ايضا الذي نزلت دبابته وعساكره و بامرته لقمع مظاهرات الازمة المالية الامريكية الا انه حين اختاره الحزب الجمهوري مرشحا للرئاسة قام على اعادة صياغة شخصيته سياسيا و ذلك خلال عام كامل في احدى كليات الاقتصاد والعلوم السياسية وذلك لتأهيله للعمل السياسي ....و الشاهد ان الفضل هنا لا يعود الى "ايزنهاور" نفسه انما يعود الى الوجود السياسي المتمثل في هذه الحالة في الحزب الجمهوري وايضا الى مجتمع ذو وعي سياسي وفي درجة حضارية اعلى)...

تفاوت الرؤى واستدعاء الدين : وهنا فاني لا اتحدث عن فصيل منتظم حزبيا وانما اتحدث عن ذلك الجمهور ذو الاتجاه الديني وخصوصا من الشباب الذين هم جزء من بنية الثورة ...وكان استدعاء الدين سببا رئيسيا في تشتيت المشهد العام بصورة اكبر وذلك عمق التناقضات بين هولاء وبين الجمهور الاخر ذو الاتجاه غير الديني بل و بين انفسهم ايضا (وقد حدث مؤخرا وكان لابد ان يحدث ان صدرت تصريحات من احدى التيارات الاسلامية تفتي بان الادلاء بالاصوات الى فصيل ديني اخر بعينه هو كفر لانه يمالئ و يصانع العلمانيين وينزلهم على قوائمه الانتخابية وان الاصوات لا تكون في سبيل الله الا بالتصويت له)...كذلك فان من المفارقات الكبرى ان ذلك الاستدعاء للدين وتفاوت الرؤى مارس نفسه بطريقة تكاد تتماثل مع الاحداث التي واكبت بداية وقائع ثورة يناير (اتهام الثورة – التمسك بوعود السلطة- ......الخ) مما احدث شرخا يزداد عمقه تدريجيا بتوالي تلك الممارسات البراجماتية (والذي يعنيني في المقام الاول هنا هو الشباب من هذه التيارات والمأساة لديهم من وجهة نظري انه بالروح والوجدان مع توجهات الحركة الثورية لكنهم بالفكر والتصورات مع قيادات احزابهم و رموزهم الدينية)...

الاستعلاء الثوري : وهو ما تبدى من صيغة الخطاب الاعلامي والذي بدأبالنفاق المبالغ فيه لوجوه الشباب من الثورة على المحطات والاذاعات الفضائية المختلفة والذي اسقط في الاذهان تدريجيا ومع مرور الوقت ان هولاء هم (شباب الثورة اللي بتفهم) بينما الاخرون هم (حزب الكنبة او الناس اللي مش فاهمة حاجة ومش عارفة مصلحة البلد)...وصحيح ان ذلك لم يكن متعمدا في حد ذاته الا ان ذلك الموقف اخذ يتحرك تدريجيا حتى اصبح يوشك ان يكون تسائلا عن شرعية الثورة وضرورتها من الاساس..وصحيح ايضا ان هناك من حاول ويحاول ان يصل بهذا الموقف الى نقطة الاعودة الا انه في ادارة الصراع السياسي خصوصا في المراحل الثورية فان ارادة الفعل والقدرة عليه هي المحك وليس الحجج الشرعية او عدالة الموقف...

الثورة المضادة:

الولايات المتحدة الامريكية : وينبغي علينا ان نسأل...ان هي الولايات المتحد الامريكية مما يجري؟...وفي تقديري ان الولايات المتحدة الامريكية تحاول ان تبقى على مسافات واحدة من جميع الطراف بحيت يبقى الوضع مخلخلا في مصر اطول فترة ممكنه (فلا يتماسك الى درجة ان يناوئ ترتيباتها في المنطقة ولا يتفكك الى درجة اختلال حساباتها اطراف جديدة في الصراع من خارج السياق) بحيث يستمر ذلك النزيف في الموارد والطاقات...الا ان هذه الممارسات لا تأخذ شكرا ظاهرا لعدة اسباب:

اولا: الحالة الاقتصادية الامريكية: المتمثل في حجم الدين الداخلي والمنافسة التي تتصاعد تدريجيا مع كيانات كبرى كالصين والمانيا و روسيا الموحدة واعادة التمركز في العراق...

ثانيا: انها بالدرجة الاولى تريد تصفية الحالة الثورية وليس الشعب المصري : والولايات المتحدة لها تجربة مريرة مع الثورة الايرانية في هذا الصدد...وفي ذلك الوقت فانها (وفي سبيل التخلص من الثورة الايرانية ) دفعت العراق الى حرب دامت 8 سنوات متتالية (قامت الثورة الايرانية عام 1979 وبدات الحرب العراقية الايرانية من عام 1980 وحتى عام 1988) ولم تسقط الثورة الايرانية لكنها اوجدت حالة من التماسك المجتمعي و توحدت القيادة السياسة مع الجماهير واجدت حالة من التماسك والعداء المستحكم بين ايران (الشعب – الدولة – النظام ) وبين الولايات المتحدة الامريكية لا زالت تحاول امريكا ايجاد حل له حتى الان...والشاهد ان مصر على وجه اليقين اهم بلد في الشرق الاوسط وبالتالي فان تكرار هذه التجربة في مصر امر غير مرغوب فيه...

ثالثا: انها تواجه حالة ثورية عامة في الوطن العربي ككل وليس في مصر وحدها : وبالتالي فان المواجهة السافرة للحالة الثورية العربية ككل بشكل علني تدفع تدريجيا الى تعاطف متبادل بين الشعوب العربية مما يعيد الى الاذهان صورة مشروع عربي متكامل (قد يكون في اللحظة الراهنة مدعوما بمشروع اسلامي عام او داعما له) وهو اخر ما ماتريده الولايات المتحدة الامريكية في منطقة تعتبرها من اكبر الكنوز الاستراتيجية التي حصلت عليها (بترول – اسواق – موارد ......الخ)...

وبناء على ما سبق فانه لاسبيل الا الى طرق العمل السري و المساعدات الاقتصادية و الابتزاز في مجال الحريات العامة والسياسية ودعم الديمقراطية...

اسرائيل : وذات السؤال ينبغي ان طرح فيما يخص اسرائيل...وفي تقديري ان موقفها لا يبتعد كثيرا ( من حيث الغايات) مع امريكا وانما قد يختلف قليلا (من حيث الوسائل) معها...واكتفي في هذا السياق بتصريحات "عاموس يادين" المنتهية ولايته لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) التي نشرت في 11 نوفمبر 2010 في جريدة الوفد فى حفل أقيم بمناسبة تسليمه مهام منصبه لخلفه الجنرال «آفيف كوخفى» : "ان مصر هي الملعب الاكبر لنشاطات جهاز المخابرات الحربية الاسرائيلي وان العمل في مصر تطور حسب الخطط المرسومة منذ عام 1979، لقد احدثنا الاختراقات العسكرية والامنية والاقتصادية والسياسية في اكثر من موقع ونجحنا في تصعيد التوتر والاحتفان الطائفي والاجتماعي لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائما ومنقسمة الي اكثر من شطر في سبل تعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع المصري، لكي يعجز اى نظام يأتي بعد النظام الحالي في معالجة الانقسام والوهن والتخلف الذي اصاب الشعب المصري"...

المصالح الاقتصادية : واقصد تحديدا هنا مجموعات المصالح الاقتصادية المرتبطة بالبنية الاجتماعية والثقافية في المجتمع المصري (خصوصا خارج القاهرة والدلتا) فيما اصطلح على تسميتهم ب(الفلول)....ولست اريد ان استفيض كثيرا في هذا المقام..لكن اهم ما ينبغي ان يتم ادراكه هو ان هؤلاء (الفلول) هم الجسر الواصل بين خطط الخارج و اخطاء الداخل ..وفي تقديري ان الحل لايكون بالاقصاء او الاستبعاد انما يكون بتبلور رؤية ثورية يكود احد ملامحها اعادة توجيه مصالح تلك الفلول لتكون في خدمة الوطنية المصرية في معركتها الثورية الجارية ...(ولتوضيح هذه النقطة فان في انتصار 1973 وهو اخر انتصار لنا في تاريخنا القريب خرج بعد نكسة 1967 باستراتيجية مؤداها (اعادة بناء القوات المسلحة – بناء جبهة شرقية (سوريا) و اعادة توجيه المصالح العربية (فوائض البترول والبترول نفسه) في خدمة المعركة الكبرى وهي نفس العناصر التي كانت في خدمة العدو في حرب 1967).....

بنية الدولة : ولعل القارئ يتذكر ان نظام يوليو الذي نشأت على يديه الدولة المصرية الحديثة كان يعيد صياغة بنية الدولة وهو يحاول بناء نظامه السياسي لكن الذي حدث ان النظام (وفي ظروف التحولات الاجتماعية الكبرى التي شهدتهامصر خلال الخمسينات و الستينات من القرن الماضي) قد اصبح هو بذاته الدولة وقد كان ذلك مبررا في رأيي في حينه الا انه بتواصل عملية الاتحدار السياسي فان الدولة كانت تواصل الانحدار معه و النتيجة ان العداء مع النظام السياسي اصبح في جزء منه صراعا مع حزء من بنية الدولة ( وهنا اسوق مثلا للتوضيح...فعندما قامن الثورة الروسية او الفرنسية على سبيل المثال فان الطبقة المتوسطة التي كانت طليعة وموجهة هذه الثورة كانت تواجه نظاما اقطاعيا ملكيا ليس بالضرورة جزءا من التراب الوطني وانما هو مالكه بالحق الالهي وكانت الدولة في ذلك الحين (وبعد التراكمات الاجتماعية والاقتصادية التي عصبح عمودها الفقري تلك الطبقة المتوسطة) تخدم ذلك النظام ...اما الثورات الاجتماعية في العهد الجمهوري فهي امر مختلف ..ذلك انها ثورة ضد نظام هو في بنيته جزء من التركيبة الاجتماعية والاقتصادية الحالية والتي لازال الجزء الاكبر منها لم يتغير كثيرا...وفي ضوء ذلك يمكن تفسير كل مجموعة من الظواهر اهمها انقسام الرأي العام حول مسار و مستقبل الثورة...اما النقطة الاهم في هذا السياق ان جزءا من تركيبة الدولة المتداعية وهو (البلطجية ..الرعاع ...اطفال الشوارع ...الخ) قد اصبحوا طرفا في المعادلة خصوصا بعد تخلخل السلطة المركزية للدولة..ذلك انهم اصبحوا طرفا في المشهد العام في ظل تطور (ولو محدود) في الوعي المصري العام بمسائل حقوق الانسان..وكنتيجة طبيعية لذلك ان اصبح هؤلاء طرفا يتحرك دون تنسيق او مؤامرة على كلتا الجبهتين (فكانو هم من احرق مجمع العلوم و قتلو بعض المتظاهرين وعلى النقيض كانوا هم من وقفوا في وجه الدولة في واقعة "محمد محمود" واحداث السفارة الاسرائيلية )...

المؤسسة العسكرية:

مفهوم الامن والامن القومي : في هذه المرحلة التي تمارس فيها القوات المسلحة المصرية دور الحاكم الفعلى للبلاد فانها (وفي تلك الظروف الاستثنائية) تقوم بوظيفتين اساسيتين (الى جانب وظائف اخرى)...الامن ..والامن القومي....

والاولى لها طرفان...المعلومات (المخابرات) و السلاح ..والمؤسسات المدنية (الاسرة – المؤسساس الوسيطة – مؤسسات المجتمع المدني)....

والثانية لها –ايضا- طرفان ... المعلومات (المخابرات) و السلاح ...والمؤسسات السيادية السياسية (مؤسسة الرئاسة – المجلس التشريعي – الخارجية)...

وفي اللحظة الراهنة فان المؤسسات السياسية ليست قائمة كما ان المؤسسات المدنية تعاني ...فاذا اضفنا عنصرين رئيسيين الى هذه التركيبة وهي الانتشار الفعلى على الارض للقوات المسلحة في طول البلاد وعرضها (وتجلى ذلك في الانتخابات التشريعية الجارية) و محاولات الاضعاف المستمرة للمؤسسة العسكرية من النظام البائد لصالح سيناريو التوريث والتي لابد انها تركت اثرا حتى لو كان طفيفا على المؤسسة العسكرية ..فاننا نكون في هذه الحالة امام موقف يكون الامن فيه هو ذاته الامن القومي من وجه نظر المؤسسة العسكرية....وهذا التداخل بين هذين المفهومين هو من حقائق الموقف الراهن وهو الذي احدث (ضمن عوامل اخرى) تلك الحالة المتشابكة التي هي على الساحة الان..

وبعد...

فاني احاول (مع غيري ممن يهتمون لامر هذا الوطن) توصيف وتحديد المشهد الراهن بعد قرابة العام من بداية احداث الثورة..

وبالقطع..فاني اسلم بوجود مؤامرة....لكني كذلك اسلم بارتكاب اخطاء بل وخطايا...وذلك ليس جلدا للذات...لكننا نشاهد امامنا بل ونشارك في صناعة التاريخ الحي لهذه الامة العظيمة بعد ان توقفت حركته لدينا منذ عام 1974

واخيرا...عودة الى التاريخ البعيد...

ان مراجعة سريعة لاحداث الثورة الفرنسية (الجمهورية الاولى من 1789 الى 1824)...سوف يدهش من مساحات التشابه بينها و بين وقائع ثورة ال25 من يناير... وصحيح ان التكاليف الاجتماعية التي تحملتها مصر (دماء – اقتصاد – امن ....الخ) لا تقارن بما دفعه الفرنسيون في ثورتهم الجمهورية الاولى...الا انها تبقى في نهايه الااعظم تكلفة فليس بعد الدماء ما يمكن ان يقدم للاوطان...

لكن المهم هو ان الشعب الفرنسي قد انحاز في نهاية المطاف الى الخيارات الوطنية و ليس الى الخيارات الحزبية او الدينية الطائفية ( وارجو ان يتذكر القارئ ان "روبسبير" رئيس لجنة الامن العام الثورية الفرنسية كان متدينا شديد التدين وكان يحاكم الملكيين و العلمانيين ويعدمهم بالشبهة حتى قيل عنه "انه طراز من البشر لا يمكن افساده" ..الا ان الشعب الفرنسي قد اعدمه هو نفسه في نهاية المطاف بالرغم مما تصوره "روبسبير" في نفسه من انحيازه للعقيدة )....

والحل...

الخيارات الوطنية و ليس الخيارات الحزبية او الدينية الطائفية....

لكن ذلك ....له حديث اخر...