مرحبا...
مر وقت –طويل نوعا ما- منذ اخر لقاء...وهو
الامر اللذي الجأ اليه –و هو الصمت- عادة عندما يكثر الصخب و تكثر معه فوضى مساهمة
العوام في مناقشة قضايا الوطن الكبرى منها والصغرى....
ويتصل الحديث اليوم بالمكون الثاني من مكونات
الاختيار...و هو الحرية...
ويرتبط مفهوم الحرية في بعديها الفردي و
الجماعي (السياسي/الاجتماعي) بمفهوم اخر هو مفهوم الفوضى و هو الحالة التي تميز
هذه المرحلة من عمر الثورة..ومن عمر مصر...
و بالرغم من اني اوصف هذه الحالة بانها فوضى –وهو
وصف سلبي طبعا للاحوال القائمة الان في مصر- الا انه ينبغي ان اوضح عدة امور تتعلق
بهذه (الفوضى):
اولا: ان هذه (الفوضى) المرهقة لجميع المصريين هي اكبر
دليل على ان مفهوم (الجمهورية) قد اصبح من مسلمات المجتمع و الدولة المصريين..بمعنى
ان الشأن العام المصري لم يعد اختصاصا مقصورا على الحاكم او النظام او السلطة او
حتى نخب المجتمع ثقافية كانت او امنية او سياسية وهو ما نراه ة نرصده من رد فعل
المجتمع المصري (و أعني هنا جموع المصريين و ليس النخب او النظام) تجاه كل القضايا
المطروحة على الساحة منذ بداية احداث ثورة يناير2011 وحتى حادثة خطف الجنود المصريين
الاخيرة في سيناء...و تاريخيا فانه من الضروري ان ندرك ان مصر دخلت المرحلة
الجمهورية فعليا بثورة 23-يوليو-1952 بعد ان كان هذا المطلب قد تشكل و توافرت
عناصره في نهايات المرحلة الملكية في مصر قبل ذلك ، لكن ذلك التحول السياسي المهم
(دخول مصر المرحلة الجمهورية) كان لابد شأنه في ذلك شأن اي تحول سياسي كبير ان
يؤسس لنفسه نظريا (فكريا) و طبقيا (اجتماعيا) و قد حدث ذلك بالفعل عبر طريق شاق
ومرهق تخلله نجاحات واخفاقات و صعود وهبوط في مستويات الفعل و الارادة المصريين
خلال الفترة من 1953 و حتى 2013 (اية قرابة نحو 60 عاما)...و لكي نرى بوضوح اهمية
هذه النقطة فانه في ظروف دول العالم النامي (الثالث) فان قيم و مفاهيم الجمهورية
هي التي اعطت من حيث المبدأ الاحقية لاي من الفصائل و التيارات السياسية (دينية
كانت او غير دينية) ان تصارع على حكم البلاد لكي تطبق رؤيتها و برامجها الاجتماعية
و الثقافية و السياسية...حيث انه في دول العالم النامي (الثالث) غير الجمهورية
فانه لا توجد هذه الاحقية لاي من هذه الفصائل و التيارات الا في صور ثقافية او
اجتماعية في احسن الاحول..وتتبدى اهمية هذه النقطة في ان هذه الفوضى المؤسسة على
قيم الجمهورية ( وليس قيم الدولة) سوف تؤدي بالتدريج و عبر مسار من الفعل ورد
الفعل للمجتمع المصري (يتعقد و يطول هذا المسار بالارتجال و يكون ابسط و اقصر
بالتخطيط) الى صياغة مفهوم و اضح وجلي للأمن القومي المصري يعتنقه المصريون (شعبا
و مجتمعا و ليس نخبا و حكاما) و هو الذي سوف يؤسس عليه لاحقا نظام ديمقراطي مرض
لاغلب (ان لم يكن لكل المصريين)....
ثانيا: ان هذه الفوضى المرهقة لجميع المصريين تقوم بعمل بالغ
الاهمية و هو استهلاك القيادات و النخب القديمة للمجتمع المصري على كافة
مستوياته السياسية و الامنية و الجتماعية..تلك القادات التي تولت الامور في كل
من الدولة والمعارضة و الاعلام و سائر القطاعات المصرية...فكما هو معلوم ان الحالة
الاثتثنائية التي تميز ثورة يناير2011 هي ان من ثار لم يحكم او على الاقل لم يعبر
عنه في الحكم و لا في الدولة ولكن لان المجتمع المصري من المجتمعات التي توصف
بانها اقوى من الدولة ولان المجتمع هو الثي ثار و ليس الدولة او بعض اجزائها فان
الدولة بما تبقى من نخبها و المعارضة من نخبها القديمة اجبرت على الاصلاح التدريجي
(المتخبط في اغلب الاحيان البطئ في كل الاحيان)...هذا الاستهلاك في هذه المرحلة من
الفوضى هو الفرصة المناصبة للقايادات الجديدة لكي تعيد تقييم موقفها و مراجعة
اهدافها فيما اسميته في مقالة سابقة ب"اخطاء الثورة" (راجع مدونتي
السابقة (الثورة المصرية (11) في بداية العقد الثاني من الالفية الميلادية
الثالثة)...ويكفي لكي ندلل على التطور المهم للقيادات الجديدة نظرة على الاعلام
لنرى الاختفاء والغيبة لهذه الوجوه المعبرة عن الثورة عن مقاعد المساجلات الحوارية
منذ فترة و انغماسها في العمل الميداني مع الجماهير و ادراكها التدريجي ان ادواتها
السابقة مع النظام السابق الذي كان يتحرك خارج اتاريخ لم تعد تصلح مع ما تواجهه
مصر اليوم مما نعرفه وما لا نعرف (راجع مدونتي السابقة (الثورة المصرية (2) – حالة
الثورة و حالة الدولة)....
ثالثا: ان هذه الفوضى المرهقة لجميع المصريين هي بمثابة
محاضرات على الهواء مباشرة للعالم العربي (وهو القاعدة الرئيسية للقضايا
المصرية الكبرى) في تطور فكرة الدولة و الحرية و الديمقراطية و هو نفس الدور الذي
لعبته فرنسا بالنسبة لاوروبا بعد ثوراها الشعبية مع اختلاف الظروف وطبيعة التحديات
المحيطة بالثورة هنا و هناك....وهذه النقطة تحديدا مهمة جدا لانه – خصوصا لدى
هؤلاء الذين يعتقدون بهوية مصر العربية و بأولوية البعد القومي لها و انا منهم –
فان من المشاكل الكبرى للعالم العربي في العصر الحديث خصوصا بعد عصر الاستقلال من
الاستعمار المباشر ان هذا الاستعمار بعد خروجه ترك كيانات عربية متباينة في
اطوارها السياسية (بين نموذج الدولة الحديثة والبداوة) و متباينة في اطوارها
الطبقية (بين الغنى و محدودية الموارد) و متباينة في اطوارها الثقافية (بين
التقدمية و المحافظة) وهو من العوامل المهمة التي اعاقت و عرقلت فرص الوصول الى
صيغة مستقرة للعمل العربي الموحد (في صورة سوق عربية مشتركة مثلا) او في نظرية
للامن القومي العربي (في صورة حلف عسكري فعال مثلا)...وبالتالي فان هذه الفوضى سوف
تساهم – شئنا و شاؤوا ام لم نشأ ولم يشاؤوا – في صياغة مستقبل شكل هذه الدول و
المجتمعات العربية في المستقبل القريب و كذلك في التركيب الطبقي لهذه المجتمعات و
في قوامها الثقافي و الطائفي...
وخلاصة ما سبق فان هذه الفوضى التي ترهق
المصريين جميعا هي (على مستوى الرؤية التاريخية للاحداث التي تتجاوز وتحاول
استشراف المستقبل) هي بمثابة عملية تطور مؤلمة لمجتمع كان يعاني من علامات ضمور في
تقافته و في قواه الاجتماعية (وكتشبيه فكان هذه حالة رياضي كان قد ابتعد عن ساحة
الرياضة فاذا الظروف تقوده الى قلب المنافسة الدولية و بالتالي فان حجم ما يعانيه
لكي يعود الى لياقته يفوق اقرانه من اللذين لم يغادروا حلبة السباق)...وهذه
العملية في مجملها سوف تقود الى تدريجيا الى ترسيخ عدة مفاهيم وقناعات مجتمعية
كثيرة مثل (حدود الامن القومي المصري)..(طبيعة انتماءات مصر و
مستوياتها)...(الحرية) التي هي موضوع هذا الحديث...هذا فيما يتعلق بحالة الفوضى
التي تعيشها مصر و المنطقة العربية هذه الايام....
و الحرية –ثالث مكونات الاختيار- فهي موضوع
النقاش في هذا المقام....
وبداية ينبغي تفكيك مفهوم الحرية الى عناصره
الرئيسية
·
الحرية المادية (حرية ان يوجد الانسان و تتمثل في حقه في الحياة بان
يتوافر له الحد الادنى منا كالمأكل و المسكن و الامن)
·
الحرية الشخصية (حرية الايعوق الانسان عائق في تقييد حركته المادية في
السفر او الانتقال او الاتصال بالاخرين او السجن الا بقانون)
·
الحرية فكرية (حرية الفكر البشري في اعتناق او رفض او استحداث عقائد
او انتماءات او افكار)
ثم تأتي بعد ذلك العناصر المركبة (الاكثر
رقيا) من عناصر مفهوم الحرية وهي التي تؤسس بالضرورة على ما سبق
·
الحرية السياسية (حرية التعبير عن الافكار و الطبقات و و الاتجاهات في
صورة احزاب او جمعيات أو نفابات)
·
الحرية الاقتصادية (حرية التعبير عن المصالح الطبقية و الجتماعية و
الخيارات الاقتصادية)
·
حرية البحث العلمي (حرية الاجتهاد العلمي والتقدم في جميع المجالات بمافيها
العلوم الدينية لجميع طوائف المجتمع الواحد)
ولست هنا بعرض الخوض التفصيلي في كل عنصر من
هذه العناصر – ولربما اذا اتسع الوقت يكون ذلك في وقت اخر- لكن الهدف هو بيان مدى
تحقق عناصر الشرط الثاني من شروط الاختيار (وهو الحرية) الذي تقف ثورة يناير ومصر
و العالم العربي امامه حائرين في هذه الايام...
وبنظرة سريعة لهذه العناصر السته (الاساسية
منها و المركبة) فسوف نلاحظ بوضوح ان كلا من العناصر الثلاثة الرئيسية غير مكتملة
او متعثرة تعثرا شديدا في اغلب الاحوال في مصر
ومن الاخطاء –فيما اعتقد- التي وقت فيها
الثورة و النخب والتيارات (الدينية و غير
الدينية)..هو تركيزها المبكر على العنصر الثاني من العناصر المركبة (وهو الحرية
السياسية) ثم تناولها العنصرين الاخرين(الاقتصادي و البحث العلمي) من دون اداراك
اهمية تأسيس كل ذلك على العناصر الثلاثة الرئيسية (المادية..الشخصية..الفكرية) وهو
ما احدث –وكان لابد ان يحدث- تشوهات عدة في الوضع السياسي العام..وعزوف الكتلة
الجماهيرية الاكبر عن المشاركة في الفعاليات المتتالية بين الحركات الدينية وغير
الدينية و الاتلافات و النخب...ولربما كان تصور تلك النخب ان الطريق الصحيح يبدأ
من تلك العناصر المركبة..وهو ما اعتقد بانه خاطئ و ان العكس هو الصحيح خصوصا ان
هناك عاملان رئيسيا هما من اهم عوامل تعقيد الوضع السياسي (وتعقيد العناصر المركبة
بصفة عامة):
اولهما: ان الظروف الموضوعية لل(البطل
/القائد / الرمز) لم تتوفر بعد وبالتالي لم يزل ظهوره مؤجلا...واهمية هذه العنصر هو
قدرته على صياغة الامال و التطلعات الشعبية في صورة اجراءات و خطوات عملية تلبي احتياجات
الكتلة الكبرى من تلك الجماهير التي تنفك حاليا بالتدريج من حول النخب القديمة...بمعنى
اخر فان هذا العنصر حين ظهوره بتوافر الظروف الموضوعية لذلك فانه (كتعبير عن الحالة
السائدة في المجتمع وقتئذ) يساهم مساهمة فعالة في تدعيم وترسيخ العناصر الاساسية الثلاثة
من مكونات الحرية (المادية..الشخصية..الفكرية)..وليس ذلك بمنحة منه او باجراءات من
السلطة مثلا ولكن من خلال عمليات شد وجذب تنتقل البلاد خلالها في هذا الاتجاه...
ثانيهما: ان التدخلات الخارجية تعيق حركة التطور
السياسي وتفاعلاته في الاتجاه الصحيح ...واذا اخذنا سوريا على سبيل المثال في الوقت
الراهن من دون تدخل الغرب (الولايات المتحدة و حلفائها) او الشرق (روسيا و الصين) كل
لدواعيه لكان قد تغيرت تماما صورة التطور هناك ...و كذلك ليبيا (ولك في مسار عكسي)...وبالتالي
فان التفاعل السياسي في وجود التخلات الخارجية من دون دأسيس حقيقي للعناصر الثلاثة
الرئيسية يعقد الحالة السياسية ويصل بها الى حالة من التوازن الحذر غير المستقر وهو
ما يؤدي بالضرورة الى (قيود سياسية) تسلب الحرية معناها الحقيقي....
واخيرا...يثور سؤال...
نعم كسر المصريون باب الخوف بعد الثورة...لكن هل فتحوا حقا باب الحرية؟؟؟