Saturday, August 27, 2011

الثورة المصرية 8

الثورة المصرية (8)

مرحبا...

نتحدث اليوم عن الهوية المصرية...

وللوهلة الاولى فان الحديث كما لو انه خارج السياق...او بعدا بعيدا عن الحوارات التي تدور في المجتمع المصري الان...وبالاخص في اعقاب ما حدث على الحدود المصرية الاسرائيلية في اغسطس 2011...

وعلى وجه التحديد فان ذلك الاعتداء هو ما جعلني اطرح ذلك الموضوع وهو الهوية المصرية....

وبداية فان هناك فارقا بين هوية الدولة وهوية الفرد...

ويدور الخلط و التداخل عند الحديث عن الهوية بين عده مفاهيم من الواجب ان ندقق في معانيها وهي :

الهوية..الجنسية..الانتماء..الرؤية..الاتجاه...

وعندما أتحدث عن الهوية المصرية فانا لا اتحدث عن مسألة اختيارية قابلة للتغيير مع مستجدات الظروف او تطور الافكار...

وانما اتحدث عن مجموعة من المحددات في تاريخ مجتمع من المجتمعات تحدد شكل فعله ورد فعله تجاه المستجدات الطارئة عليه او خلال تفاعلاته الاعتيادية فيما بينه وبين بعضه وفيما بينه وبين المجتمعات الاخرى...وذلك هو مفهوم الهوية...

وبالمثل بالنسبة للفرد...

غير ان الفرد له انتماء واحد ودين واحد ورؤية واحدة وجنسية واحدة واتجاه واحد في الموضوع الواحد...

وليس ذلك للمجتمع و لا للدولة...

بعض تلك المحددات فيها ماهو ثابت نسبيا...هذا ما يحدد شخصية المجتمع...

والبعض الاخر من تلك المحددات متغير نسبيا...وهو ما يحدد انتماء المجتمع...

ولان اي مجتمع هو حصيلة افراده...

فانه –وعلى مستوى الفرد- فان حصيلة تجربة كل فرد على حدة تكون في وعيه الواعي وغير الواعي مجموعة من وجهات النظر في شتى مجالات الحياة...وتكون حصيلة وجهات النظر تلك هي الرؤية الفردية...وبناء على ذلك فان مجموع وليس تراكم تلك الرؤى هو ما يكون الرؤية المجتمعية...كذلك فان تراكم وليس مجموع تلك الرؤى الفردية هو ما يكون الاتجاه المجتمعي...

ولان مصر لديها تنوع مداري هائل..وتنوع جغرافي كبير..وتنوع انساني غني..وتجربة تاريخية عميقة..وروابط تاريخية ذات مستويات عدة..و..و..و...فان من الطبيعي ان يكون لها جنسية مصرية و رؤية مصرية و انتماء مصري و اتجاه مصري و هوية مصرية...

لكن الخلط بين تلك المفاهيم ينتج مشكلة كبيرة بنتج عنها جنسيات مصرية و رؤى مصرية و انتماءات مصرية و اتجاهات مصرية و هويات مصرية....

وقد يتصور البعض ان ذلك مسألة طبيعية جدا ان يكون لكل منا جنسيته رؤيته وانتماؤه واتجاهه وبالتالي هويته...لكن ذلك في رأيي مسألة تختلف عن فكرة الاختلاف الطبيعي بين الافراد وبعضهم في مجتمع واحد وذلك لعدة اسباب:

1. ان الشعب المصري يتحرك الان الى مستقبله على خلفية ثورة شعبية...وهذا يعني في المقام الاول ان مجموعة العوائق التي كانت موضوعة في طريق تقدمه والتي تسببت في تردي اوضاعه على مدى عشرات السنوات كانت من القوة بمكان بحيث احتاجت الى ثورة في مصر من اقصاها الى اقصاها وهذا معناه اننا امام مجتمع عظيم القدرات لكنه منهك القوى...

2. تلك العوائق كانت مركبة التكوين...بمعنى انه شارك في صنعها ابناء الوطن (النظام السابق و بسلبية الشعب) وغير ابناء الوطن (اسرائيل وكامب ديفيد وما بعدها.. و امريكا والتبعية السياسية) وذلك يختلف كلية مع التقدم التدريجي الذي تحقق في انجلترا مثلا منذ الثورة الصناعية وما قبلها وحتى الان..حيث كانت العوائق بسيطة التكوين وتتمثل وفقط في الاحتكاك الطبيعي بين ابناء الشعب الواحد وبين بعضهم...

3. ان مصر وعلى وجه الخصوص لديها من التنوع في تجربتها التاريخية ما يجعل لها هويات محتملة :

a. العصر الفرعوني (ينتهي بالعصر البطلمي)...

b. العصر البطلمي (اليوناني)...

c. العصر المتوسطي (من العصر الروماني وحتى الفتح العربي)...

d. عصر صدر الاسلام (من الفتح العربي وحتى تولي البيت الاموي الخلافة)...

e. العصر العربي الاسلامي (من الحكم العباسي وحتى الحكم العثماني)...

f. العصر الاسلامي (العثماني)...

g. العصر الوطني (عصر محمد علي واسرته)...

h. العصر القومي وثورة 1952...

4. ام مصر وبموقعها الجغرافي واتصاله بالاستراتيجية العالمية للدول الكبرى فان تحجيم دور مصر وعزلها عن محيطها سياسيا كان وسيظل من اكبر مطالب تلك الاستراتيجية....

وعليه...فان عدم التنبه الى حدود الختلاف حول فكرة الهوية في تلك المرحلة من عمر مصر وثورتها فان بلدا بحجم مصر وبقدرتها على تقديم نموذج ملهم لمحيطها مما قد يؤثر على حسابات مراكز القوة والنفوذ في العالم ويخل بالاستراتيجية العالمية بصعود قوة اقليمية مركزها مصر قد يدفع انظمة دولية واقليمية لاستغلال عناصر الثورة المضادة في الداخل وسلبية الكتلة الاكبر (الصامتة) من الصريين من ناحية ومن ناحية اخرى انهاك القوى المجتمعية (الدينية وغير الدينية) واستهلاك قوى المجتمع – المنهك اصلا- في معارك حول الهوية المصرية تكرس لفكرة عزل مصر سياسيا و حضاريا عن جوارها الاقرب مما يعرقل تقدمها وتقدم منطقتها معها....

وفي هذا الاطار تحديدا استدعي ردة الفعل المصرية تجاه اعتداء اسرائيل على الحدود المصرية وعلاقته بقضية الهوية...

فمنذ حالة التماهي في (ميادين التحرير المختلفة) منذ 25 يناير وحتى حادث الاعتداء على الحدود كانت كل الامور خلافية...فقد كانت تحكم تلك المرحلة رؤى..اتجاهات..انتماءات...ولم يكن رد فعل الجمهور واحدا ولا موحدا الا في هذين الحدثين منذ بداية الثورة ...لانه حكم تلك الحدثين هوية واحدة...

ففي ميدان التحرير لم نر سلفيين ولا علمانيين ولا ليبراليين ولا مسيحيين ولا...ولا...ولا...

وامام السفارة الاسرائيلية لم نر سلفيين ولا علمانيين ولا ليبراليين مسيحيين ولا...ولا...ولا...ولا...

انما راينا عربا مصريين...

وفي الحالة المصرية تتحدد شخصيتها من خلال موقعها (تتوسط قارات العالم القديمة الثلاث)...امتدادها الجغرافي (واتصالها بالعالم العربي )...اللغة (وحدة اللغة مع العالم العربي قبل الاسلام وبعده)...اذ لا سبيل الى تغيير تلك العناصر اي انها ثابتة نسبيا...و...و...

وايضا...يتحدد انتماؤها من خلال الدين (اغلبية مسلمة واقلية مسيحية) والطائفية كذلك...و المتوسطية (وثقافة مصر المشتركة مع دول حوض البحر الابيض المتوسط منذ ما قبل الفتح العربي معروفة)...واللغة العربية (وحدة اللغة مع العالم العربي قبل الاسلام وبعده)...و..و...

ومن الملاحظ في الفقرتين السابقتين ان عنصري (اللغة العربية و الدين) على سبيل المثال كانا مشتركا في تحديد الانتماء المصري وفي تحديد الشخصية المصرية ...وكلاهما يؤدي الى تحديد الهوية المصرية ...وكيف يكمن الخطر في ذلك الخلط....

فعندما تعتمد مصر هوية مبنية على الدين (الاسلام) فقط وتسقط ما عداها من محددات الهوية المصرية...فان التطور الطبيعي لذلك (مثلا) ان الصراع مع اسرائيل سوف يكون غير ذات موضوع اذا تركت اسرائيل المسجد الاقصى والقدس تحدت سيادة اسلامية ايا يكن جنسيتها...(مثلا) سيكون الخطر الاكبر مصدره ايران حيث المذهب الشيعي وليس الاسرائيليين من حيث كونهم يهودا ولا الامريكيين من حيث كونهم مسيحيين اضافة الى ذلك الاقليات المذهبية الاخرى في مصر وذلك استنادا الى قاعد ان الاولى تطهير المنزل من الداخل اولا (الذاهب المنحرفة عن العقيدة) لانهم الافرب الينا والقدر على النفاذ بيننا ...(مثلا) لن يوجد مانع (شرعي) للرئاسة او لشغل اي منصب عام مادام الشخص مسلما وليس مشروطا ان يكون مصريا اذ ان ذلك في الاسلام لا يعطي له ميزة على غيره انطلاقا من قاعدة "ان اكرمكم عند الله اتقاكم"...

وعلى الجانب الاخر...فاذا اعتمدت مصر هوية مبنية على اللغة (على غرار الفرانكفونية او الانجلوفونية) فقط وتسقط ما عداها من محددات الهوية المصرية...فان التطور الطبيعي لذلك (مثلا) وفي ظل الاسهام الحضاري الضئيل للعالم العربي ككل قياسا للعالم الغربي فان اللغة تصببح وسيلة لاختراق ثقافات مغايرة للواقع العربي بما تحملة من بنية الحضارة الغربية لا تتفق بالضرورة مع ما يعتقده الناس...(مثلا) وبما ان اللغة وسيط لتبادل الافكار حين الستخدامها وميراث حضاري حين كتابتها فانه في حالة طارئ ما كتجربة الجزائر في محو لغتها العربية واستبدالها بالفرنسية فان الحوار يتعطل ولا تنتقل الافكار و تتركر تبعية غير متعمدة مع الدولة الام صاحبة اللغة المفروضة ...

ودون الدخول في التفاصيل وحتى يتسع بنا المقام في حديث اخر...فان مصر مرت بأربعة مراحل اساسية في اطار تحديد هويتها:

1. مرحلة السيادة الفرعونية...

في تلك المرحلة كانت مصر منارة الدنيا واصبحت به منارة التاريخ...وفيها كانت السياسة ممتزجة مع الدين شأن كل البلاد في ذلك العصر على ان اهم يميز ذلك العصر:

· لغة واحدة (وهي المصرية القديمة وهي تصنف من اللغات العروبية قريبة البنية من اللغة الارامية (لغة سيدنا ابراهيم) التي هي اصل كل اللهجات العربية)

· اتصال جغرافي متصل مع العالم العربي (وهو وقتها بلاد عيلام ومناطق بالشام حيث الهكسوس والسودان وشرق ليبيا و غرب الجزيرة العربية)

· الدين (مر بمراحل ثلاث كما هو معروف : تعدد الالهة ثم ترجيح اله اكبر ثم التوحيد (في صورتيه الوثتية و الكتابية)

· مركزية الدولة (بسبب وجود النيل والقدرة على التحكم فيه وتوصيله الى المواطنين)

· اهمية الجيش (بسبب الرخاء النسبي لوادي النيل مما ادى الى الاغارات القبلية على الوادي في اطار الصراع الطبيعي للبقاء)

وفي هذه المرحلة كانت مصر تتحكم في مصائر العالم وقتها ولم تكن هوية الدولة امرا ذو موضوع اولا لان فكرة الدولة في حد ذاتها كانت تتشكل وفي اطوارها الاولى وثانيا لانه في مرحلة القوة المفرطة لا يعود الناس يتسائلون عن الهوية يقدر ما يهتمون بانجازاتهم على الارض...

2. مرحلة التبعية...

وتبدأ تلك المرحلة من الحكم اليوناني وحتى نهاية الحكم العثماني...

وفي تلك المرحلة لم تعد مصر تقرر لنفسها شكلا خاصا بهويتها...ذلك انها كانت تاخد شكل و هوية من يتولى زمام امورها ...

فهو مرة اجنبي لغة ودينا ...وهو مرة عربي مسلم في صدر الاسلام وفي عهد الامويين...وهو مرة عربي على اكتاف غير عربية (فارسية) في العصر العباسي...وهي مرة عربية وبتأثيرات غير عربية وعلى المذهب الشيعي الفاطمي...وهي مرة اسلامية سنية غير عربية (من اسيا الصغرى) (ايوبية و مملوكية )...ثم هي مرة اسلامية اوروبية (تركية) على يد العثمانيين...نا هيك عن تأثر كل من (اللغة ...المذهب (داخل الدين الاسلامي)...العادات...الثقافة...العلاقات مع الجوارالجغرافي...الخ ...على ان اهم ما يميز ذلك العصر:

· انه ومنذ العصر اليوناني على يد الاسكنر ظهرت اهمية الموقع الاستراتيجي لمصر وقد توارثه كل الامبراطوريات الاحقة وحتى العصر العثماني

· وترتب على ذلك بشكل واع او غير واع ان حاول كل منتصر باستثناء عصر صدر الاسلام ان يعمق العلاقة بمصر وسكانها وان يتوحد معها ويعطيها عاداته و افكاره و رؤاه و عقائده مما ادى في نهاية الامر من تراكب وتجاور مجموعة من الجنسيات لها رؤى و اتجاهات مختلفة امتزجت بالموقع فنتجت شخصية لمصر تتغير ملامحها العصر ولكن لا تختلف...

· ان الصلات الجغرافية والحضارية بالعالم العربي (وقد اتسع في هذه المرحلة ليشمل حدود ما نعرفه اليوم ) لم تنقطع....كما ان اللغة تطورت واستوعبت قدرا كبيرا من المفردات (تقدر مفردات اللغة الهيروغليفية التي نستعملها في العامية المصرية اليوم ب10000 مفرده)

وفي هذه المرحلة كانت مصر تابعة للطرف المنتصر وقتها ولم تكن هويتها امرا ذو موضوع اولا لان المصائر كانت تتقرر وبشكل عام في مكان اخر حيث يقيم الطرف المنتصر وثانيا لان نمط امتزاج الحكم بالدين والتطور التدريجي لمفهوم الدولة حتى منتصف الحكم العثماني ثم ضموره في النصف الثاني من الحكم العثماني لم يتح فرصة لبحث مسألة الهوية المصرية..

3. مرحلة السيادة الجزئية...

وتمتد تلك المرحلة منذ ظهور محمد على وحتى نهاية اسرته في مصر...

وفي هذه المرحلة كان مشروع محمد على –على الرغم من كونه مشروعا شخصيا- الا انه مشروع وطني...وقد استعادت مصر دورها جزئيا في هذه المرحلة مرت خلالها بثلاث محطات رئيسة ( هزيمة محمد على – احتلال القاهرة – الخروج من القاهرة والبقاء في قاعدة قناة السويس)...على ان اهم ما يميز ذلك العصر...

· ان مصر اختبرت بالفعل اهمية الصلات بالعالم العربي اثناء توسعات محمد على واختبرت وعلى ارض الواقع الدين واللغة العربية الاتصال الجغرافي والتاريخ المشترك والعروبة و الجيش كمكونات اساسية في الشخصية المصرية مشتركة مع امتدادها الجغرافي

· اختبرت مصر وعلى ارض الواقع اهمية الموقع المصري و علاقته بالاستراتيجية العالمية واختبرت وبالتجربة مكامن الخطر والامن القومي (الغزو الاوروبي – اسرائيل – الاحتلال الانجليزي)

(جدير بالذكر هنا ان الدولة العثمانية وهي الخلافة في ذلك الوقت كانت على خصومة (بن عبد الوهاب) مؤسس ما يعرف بالمذهب الوهابي فيما بعد...وقد طلب الباب العالي الى محمد علي ان يتكفل بهذا الامر في ظروف ليس هنا المقال لبيانها...لكن الدرس هنا ان قضية اعتماد الدين مصدرا واحدا ووحيد للهوية كان من احدى نتائجه خروج الوهابية على الخلافة العثمانية وكلاهما محسوب على السلفية...اذ كيف يستقيم ان يخرج فريق سلفي على اخر مع ماهو معروف من مظان شرعية في الاجتهادات السلفية في الخروج على الحاكم).....

· اختبرت مصر وعلى ارض الواقع عمق الصلات الثقافية مع اوروبا المتوسطية ومعروف امر البعثات المصرية والمدارس وانشاء الجيش (على يد سليمان باشا الفرنساوي)...

في هذه المرحلة كانت مصر تتحسس طريقها في اتجاه تحديد هويتها وذلك لاسباب عدة اولا ان القرار او جزءا منه عاد ليتقرر في القاهرة...ثانيا مساحة الاحتكاك الحضاري زادت كما وكيفا وان كانت بتكاليف اجتماعية اعلى نتيجة لمشروع محمد على واستدعاء للمخزون الحضاري في مرحلة ما قبل محمد علي..ثالثا ان البعثات الى وروبا اطلعت النخبة على عالم يعيد بناء مؤسسات دولته على اسس جديدة كلية عن تلك التي عليها مصر في ذلك الوقت لكن الميراث الحضاري المصري وكان طبيعيا ان تكون الهوية احدى الاسئلة المطروحة على الساحة...

لكن هناك عاملا هاما اجل ولا اقول عطل مسألة بحث الهوية..حيث ان الدافع الوطني جعل لجلاء الانجليز الاولوية على اي موضوع اخر...وبالتالي كانت الافكار والاتجاهات القومية الموجودة (كمحاول عبد الرجمن عزام باشا انشاء جامعة الدول العربية) تتوارى لصالح الهدف الوطني العام...

4. مرحلة السيادة القومية...

واقصد بتلك المرحلة بداية من ثورة يوليو عام 1952 وحتى عام 1973....على ان اهم مايميز هذه المرحلة:

· ان مصر وبالاسترداد الكامل للقرار الوطني كان لزاما عليها ان تحدد هويتها...

· ان الاستيعاب الكامل للتجربة المصرية الطويلة افرز محددات للهوية المصرية ترتكز على الاشتراكية (كمذهب اقتصادي) والقومية العربية (كمجال للنفوذ والامن القومي) والاسلام (كخلفية حضارية وثقافية)

وقي هذه المرحلة بدت مصر وقد اختارت هوية عربية قومية على خلفية حضارية اسلامية في الاساس فيما كان بعرف بنظرية الدوائر الثلاثة التي تتوسطها مصرالدائرة العربية ثم الدائرة الافريقية ثم الدائرة الاسلامية...وقد انعكس كل ما سبق من عناصر الهوية واختبارها في تلك المرحلة...وقد مرت بمحطات هامة هي (الغارة على غزة...حرب 1956...السد العالي...الوحدة مع سوريا...حركات التحرر الوطني...عدم الانحياز...حرب اليمن...حرب 1967...حرب الاستنزاف...حرب اكتوبر 1973)....

وهنا فاننا امام ملاحظة هامة...

ان الخلط بين الانتماء والهوية جعل الصراع في احدى تجلياته صراعا حول المادة الثانية من الدستور...

دعونا نلقي نظرة على المادة الاولى من الدساتير المصرية في اطار الحديث عن الهوية المصرية....

ان المادة الاولى من الدستور منذ عام 1956 وعتى الاعلان الدستوري الذي يسير مصر في تلك المرحلة هي:

مادة 1: مصر دوله عربية مستقلة ذات سيادة، وهى جمهورية ديمقراطية، والشعب المصرى جزء من الأمة العربية.

مادة 2: السيادة للأمة، وتكون ممارستها على الوجه المبين فى هذا الدستور.

مادة 3: الاسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية.

ان كل الدساتير او مشروعاتها التي وضعت في مصر وحتى دستور الاخوان الذي وضع عام 1952 كان يتجاهل ان الشعب المصري جزء من الامة العربية ...وكان ذلك طبيعيا..لان صلات اللغة كان قد تم اختبارها و صلات الدين كان قد تم اختبارها...ولم يبقى الصلات الجغرافية والثقافية بالمحيط العربي والافريقي والمتوسطي...وفيما تلى 1952 كانت تلك الركائز قد اختبرت ايضا...

والان...هل اقصد من كل ذلك ان ادعو الى هوية معينة....

بالطبع لا....

لكني اهدف الى تشريح سريع لمراحل صياغة الهوية المصرية خلال تجربتها الطويلة ...و بيان ان الهوية عملية مركبة تختلف عن الانتماء الى دين معين او مذهب معبن كما انها تختلف عن الرؤى والاتجاهات الانسانية وهي في قسم منها لا اختيار فيه بينما في قسمها الاخر الختيارات وبدائل...

واتصالا بما سبق فان ...فان الدين على سبيل المثال لا يصلح ان يكون هوية بمفرده...اذ انه عملية اختيارية (تختار ان تنتمي لهذا الدين او ذاك) وبالمثل الطائفية وكلاهما عملية انتماء...

وايضا..فان الليبرالية على سبيل المثال هي شكل من اشكال الرؤية في المجال السياسي لا يصلح ان يكون هوية بمفرده تحمل في داخلها فرصة تكون اتجاهت مختلفة....

والقومية العربية ايضا هي شكل من اشكال الانتماء لا يصلح ان يكون هوية بمفرده..وهي تتميز بتحديد سياسي وجغرافي لمكامن الامن القومي العربي بل وتتخطى التنوع الطائفي والديني...لكن عطاءها يتوقف عندما تختلف رؤى الافراد في العلاقة مع الله والطبيعة والانسان...وقد تتحول الى نوع من الشوفينية (التعصب العرقي)....

واعود الى التاريخ والى واقعة الحدود المصرية...

واذكر انني –ومنذ بداية تلك السلسلة- لم اعتبر ثورة ال25 من يناير شأنا داخليا مصريا ابدا.....

وكعادتي و بولعي بالتاريخ اسوق واقعة تاريخية ذات صلة بهوية الدولة وعلاقتها بامنها القومي في هذا السياق...:

في بدايات عام 1955 وعندما كانت ثورة 1952 تعزز مواقعها...كانت اسرائيل تحاول (بتنسيق امريكي من خلال الخطة الفا) تحقيق صلح منفرد تجر وراءه الدول العربية منذ ان قامت الثورة في 23 يوليو 1952...في تلك الفترة كانت مصر (اثر تجربة سياسية طويلة بدأت بالحكم البطلمي وانتهت بحكم اسرة محمد على ) تختبر كل مقولات هويتها (من الاسلامية...الى المتوسطية...الى الفرعونية...الى الشيوعية...الى الاشتراكية...الى القومية...الى...الى...الى...)...و في الثامن والعشرون من فبراير عام 1955 أطلقت فيه إسرائيل أولى حملاتها العسكرية على قطاع غزة الذي كان يخضع في ذلك الحين للإدارة المصرية..كان قد مر على قيام الدولة العبرية حوالي سبع سنوات، والفترة منذ قيامها في 15 مايو 48 حتى تاريخ الثامن والعشرين من فبراير 1955 لم تكن فترة هدوء عسكري بينها وبين والعرب المجاورين لفلسطين...كانت هناك استفزازات إسرائيلية مستمرة تستهدف خلق أجواء من التوتر في ظل عدم وجود رادع عسكري عربي، وكانت عين الكيان الإسرائيلي دوما على مصر بعد قيام ثورتها في يوليو 1952...وكان قد خطط لتوتير العلاقات بين القاهرة وكل من بريطانيا والولايات المتحدة،ومن ضمن هذه المخططات الفاشلة،ما عرفت بعملية سوزانا وهي عملية سرية إسرائيلية استهدفت تفجير أهداف مصرية وأميركية وبريطانية في مصر في صيف عام 1954 لاثبات ان مصر بعد الثورة غير قادرة على ادارة شؤونها ولكن العملية اكتشفتها السلطات المصرية وسميت باسم فضيحة لافون، نسبة إلى وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك بنحاس لافون الذي أشرف بنفسه على التخطيط للعملية.

بدأت الغارة على غزة في الساعة لثامنة والنصف من مساء 28 فبراير 1955، إذ اجتازت قوة خط الهدنة إلى داخل القطاع في عملية سميت بالسهم الأسود مظلات إسرائيلية بقيادة أريل شارون....قامت مجموعة من تلك القوة بنسف محطة المياه ونسفها، وأخرى أغارت على مسكن مدير محطة سكة حديد غزة، وهوجم معسكر القوات المصرية القريب من المحطة...وطلب قائد المعسكر المساعدة من أقرب موقع عسكري مصري وبالفعل فأسرعت الشاحنات الناقلة للجنود لتلبية النداء، وهذا ما أرادته إسرائيل على ما يبدو، إذ وقعت القوة القادمة في الكمين الذي أعده الإسرائيليون في الطريق وسقط 39 قتيلاً و33 جريحاً...واعتبر الإسرائيليون أن ما قاموا به هو عمل بطولي،وزعموا أن سبب الهجوم على غزة هو الثأر لمقتل احد الإسرائيليين...
ويقول شارون، كان قائد هذه العملية في مذكراته التي نشرت أن "الهجوم على مقر القيادة العامة للجيش المصري في قطاع غز كان أهم العمليات التي قام بها المظليون، فعلى الرغم من قيامنا بعدة عمليات ضد المواقع المصرية والأردنية ظل فدائيو قطاع غزة يواصلون زرع الموت والخراب، ومن أجل ذلك قررت الحكومة الضرب،وفي ليلة الهجوم وضعت اللمسات الأخيرة على مخططي، وصبيحة اليوم التالي استدعيت الضباط إلى غرفتي الخاصة، وبسطت على الحائط الرسوم البيانية، وشرحت أطوار العملية، وكيفية خداع مراقبي الأمم المتحدة، ثم أصدرت الأوامر، وخرجت لمتابعة الاستعدادات الأخيرة. وبعد انتهاء العملية، عدنا من حيث أتينا، نحمل ثمانية قتلى و14 جريحاً. وكان موشى دايان ينتظرنا، وسأل بلهجة جافة: كيف جرت الأمور؟ أجبته: أنجزنا مهمتنا، ولكن بخسائر فادحة...رد بلا مبالاة : الأحياء أحياء، والأموات أموات"...

وكان الهدف من تلك الغارة خصوصا بالنسبة للجانب المصري اثبات ان مصر غير قادرة على ضبط حدودها وحتى يلقى في روع المصريين انه لاسبيل الى تقدمها الا بعد ان تسوى العلاقات مع اسرائيل بصلح مكتوب يجرد مصر من عوامل قوتها الممكنة مستقبلا....

لم يكن أحد يتوقع أن تؤدي هذه العملية العسكرية المحدودة إلى تحول كبير في الأحداث السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط. في البداية كان لابد من دعوة مجلس الأمن إلى أن يتخذ موقفا ايجابيا، وبالفعل، صدر قرار المجلس رقم 106 بتاريخ 29 مارس 1955، بإدانة الهجوم الإسرائيلي...تحركت مصر فور العدوان، والرئيس جمال عبد الناصر أمام طلبة الكلية الحربية، أن الهجوم الإسرائيلي على غزة سوف تكون نقطة تحول في تاريخ المنطقة...وبالفعل كان هذا التحول هو إبرام صفقة الأسلحة السوفييتية الشهيرة في 27 سبتمبر 1955 والتي وصفت بكسر احتكار السلاح، وهى الصفقة التي غيرت ملامح الشرق الأوسط ودول العالم الثالث حيث اتجهت كافة الدول وحركات التحرر بعدها للتسلح من الكتلة الشرقية التي قادها الاتحاد السوفييتي...وقدرت قيمة الصفقة في ذلك الوقت بـ 200 مليون دولار وكلها أسلحه سوفييتية تم بيعها تحت اسم تشيكوسلوفاكيا لعدم إثارة ردود فعل دوليه عنيفة في ذلك الوقت حيث كانت مصر تنتظر تمويلا دوليا لبناء السد العالي من الأمم المتحدة والغرب (وقد تم التراجع ان تمويل السد العالى و مرة اخرى بهدف اثبات ان مصر بدون سلام مع اسرائيل لا امل لها في التقدم) وسددت ثمنها بمنتجات مصرية زراعيه ونسيجيه وأقطان...ويقال ان جزءا من تلك الأسلحة استخدمته مصر خلال مواجهتها للعدوان الثلاثي عليها في نهاية أكتوبر 1956 وهو العدوان الذي استهدف القضاء على ثورة 52 والرد على قيام مصر بتأميم قناة السويس لتمويل بناء السد العالي بعد أن سحب البنك الدولي والولايات المتحدة عرض تمويله بسبب صفقة الأسلحة التشيكية...والذي شاركت فيه كل من فرنسا و انجلترا مع اسرائيل في اتفاق مكتوب عرف فيما بعد باسم اتفاق (سيفر)...واللذي لعب فيه الشارع العربي دورا حاسما في نصرة الشعب المصري بتفجير خط انابيب البترول المار عبر سوريا الى اوروبا...انتهى....

ما اشبه الليلة بالبارحة....!!!!!

................................

في تلك الايام كان هناك قائد للثورة...وقطب دولي كبير (الاتحاد السوفييتي)...واسرائيل لم تزل بعد في مرحلة النشأة...والولايات المتحدة لم تتفرد بعد بالعالم...

ولان الهوية كانت واضحة المعالم ...استطاع الشعب ان يأخد بادوات عصره وان يرسم طريقه برغم الازمات والانتكاسات...

اما اليوم ......فعلينا ان نعيد صياغة هويتنا ثم نتحرك ولكن وفق متغيرات عصرنا....

ولكن...لذلك حديث اخر...