الثورة المصرية (10)
مرحبا...
اليوم نتحدث عما يمكن اعتباره جدلا تاريخيا...و موضوع ذلك الجدل التاريخي هو محاكمة التاريخ...
واني لا اعتبر ان ذلك امر بعيد الصلة بالحدث الاكبر في هذه الايام .. ثورة 25 يناير...
ذلك انه وبما ان الثورة هي عملية نقض للوضع الراهن في المقام الاول (راجع مدونتي (الثورة المصرية (1) في بداية العقد الثاني من الالفية الميلادية الثالثة (مفهوم الثورة))...فان الخلط يحدث دوما بين ضرورة نقض الوضع الراهن وبين ضرورة نقض التاريخ...
ذلك ان عملية نقض الوضع الراهن تبدأ من لحظة نجاح الثورة وتمتد الى تبلور اجراءات ثورية وليست ثائرية (وكلاهما مشتق من كلمة ثورة) تضمن تحويل مسار الدولة الى الوجهة التي تتحقق فيها اهداف تلك الثورة...وذلك لا يتحقق الا عند تبلور رؤية واضحة تتوفر لها ارادة واعية – وليس بالضرورة حكيمة- تجاه اهدلف محددة...
لكن عملية نقض التاريخ تبدأ من لحظة نجاح الثورة وتمتد الى تبلور اجراءات ثأرية (مشتقة من كلمة ثأر) تنقض على جملة التراث الحضاري الثي تراكم على مر السنوات وزيحه من ذاكرة الامة او تشوهه لصالح حالة الثورة الطارئة...وتحمل ذلك التراث الحضاري كل المسؤولية عن مجمل تردي الاوضاع...وتضع المجتمع في نقطة مفارقة للماضي وكان ما قبل الثورة كان فراغا...
ومن الطبيعي ان الماضي يضع بصمته في مسار الحاضر والحاضر يضع بصمته في مسار المستقبل...
لكن الخطورة تكمن في ان الحالة الثورية قد تتصور امكانية حاضر بلا ارضية من الماضي....او ماض يراد بعثه في المستقبل...او مستقبل بلا جذور في الماضي والحاضر...
وبشكل عام...فان المجتمعات المستقرة والتي لا تمر في لحظة تاريخية معينة بحالة ثورية فانها تمارس عملية نقد للتاريخ...اما تلك تلك المجتمعات غير المستقرة والتي تمر في لحظة تاريخية معينة بحالة ثورية فانها تمارس عملية نقض للتاريخ...
وفي حديثنا عن محاكمة التاريخ...فان النتيجة غالبا ما تكون احدى نقيضين (تمجيد او تحقير...براءة او ادانة...او..او )...اذ تغيب الرؤية التحليلية النقدية ويحل محلها رؤية متطرفة (في الاتجاه السلبي او الايجابي)...
وتتجلى خطورة عملية نقض التاريخ في فيما يلي:
1. الخلط بين العام والخاص :
مثلا فان سيرة حياة "الظاهر بيبرس" تنقسم الى مرحلتين...قبل ان يتولى حكم مصر وبعد ذلك...ففيما قبل حكم مصر فقد كان متورطا في اغتصاب املاك من الناس دون وجه حق كما انه تورط في قتل "قطز" حاكم مصر الفريد من نوعه و صاحب السيرة الاسطورية وقاهر التتار..اما بعد حكم مصر فقد كان ذلك القائد العظيم الذي دحر الصليبيين واعاد الامن و الحياة في مصر وحولها الى دولة قوية...
والشاهد انه في تقييم تلك المرحلة فان المواقف تختلف بين النقيضين ليس تقييما لسياساته حين حكم مصر فقط ولكنها تتأثر بتلك المرحلة التي سبقت ذلك (والتي هي شأن خاص في المقام الاول) هذا مع العلم بان تلك المرحلة السابقة لم تؤثر سلبا ولا ايجابا على سياساته التالية في حكم مصر فيما بعد ذلك...
2. اسبقية المنهج (الايدولوجيا...الرؤية) على الصالح العام :
مثلا فان التيارات الاسلامية –واخص منها تلك التي لم تتعرض للاعتقال ومصادرة الحريات- تقف من المرحلة الناصرية موقف الادانة الكاملة نظرا للايدلوجية اليسارية (الاشتراكية) التي اعتمدها جمال عبد الناصر وعدم اعتماد ايدلوجية اسلامية للسياسة المصرية بينما تقف موقف التأييد الكامل من المرحلة الساداتية نظرا للتوجه المعاكس تماما الذي اتخذه محمد انور السادات واعتماده بعض الممارسات الاسلامية (الى حد ان لقب بالرئيس المؤمن اضافة الى ماهو معروف تاريخيا من تأييده للحركات الاسلامية)...
والشاهد انه على الرغم من ان موقف المرحلة الناصرية من العلاقة مع اسرائيل ومن الفقراء كان على العكس تماما من موقف المرحلة الساداتية من كلتا القضيتين (الانفتاح الاقتصادي وما اعقبه من احداث 18 و19 يناير...و اتفاقية كامب ديفيد وما بعدها) الا ان اتفاق الرؤى لم يبرء المرحلة الناصرية من وجهة نظر الاسلاميين...
وفي نفس السياق فان موقف اليساريين (ومعهم القوميين) من كلتا المرحلتين معاكس تماما لموقف الاسلاميين على طول الخط..ولنفس الاسباب..
3. التعميم :
مثلا (واسوق هنا المثال السابق ايضا) فان القاء المسؤولية على المرحلة الناصرية فيما يتعلق بالشأن الاقتصادي ونسبة ذلك الى مجمل الحروب التي خاضتها مصر في في تلك المرحلة اضافة الى مجموعة الاجراءات والقرارات الاشتراكية ...
(بلغت ديون مصر الخارجية عند وفاة الرئيس الراحل عبد الناصر في عام 1970 حوالي أربعة بلايين دولار خلال 18 عاما... ثم وصلت عند وفاة الرئيس الراحل السادات في عام 1981 إلى ما بين 18-20 بليون دولار خلال 10 اعوام فقط)...
والشاهد انه تم تجاهل ان الدين المصري الخارجي قد تضاعف حوالى خمس مرات في فترة 10 سنوات فقط وحدثت خلالها احداث 18 و19 يناير..هذا على الرغم من انها فترة امتازت بالسلام النسبي بينما لم يكن ذلك حال المرحلة الناصرية...
4. النظرة المفارقة للتاريخ : راجع مدونتي (الثورة المصرية (5) في بداية العقد الثاني من الالفية الميلادية الثالثة (الممارسة السياسية))
5. السطحية و غياب مفهوم العقل النقدي :
مثلا (واسوق هنا المثال السابق مرة ثالثة) فان غياب المنهج التحليلي في دراسة حركة التاريخ تجاهل (على سبيل المثال كأحد العوامل) تلك الفئات الاجتماعية التي اعادت ترتيب مواقعها عقب ثورة 1952 وغيابها عن صدارة المشهد الاجتماعي والسياسي في تلك المرحلة ثم استغلالها ظروف ما بعد حرب 1967 في تدعيم مكاسبها ضد ثورة 1952 وصولا الى استغلالها ظروف سياسة الانفتاح الاقتصادي والسلام مع اسرائيل والذي كان من محصلته في الجانب الاقتصادي سيادة ثقافة الاستهلاك على حساب ثقافة الانتاج وبالتالي تبريرالاستيراد ومن وراءه الاستدانه من الخارج مما نتج عنه تدهور الاوضاع الاقتصادية في مصر...
والشاهد ان التعامل مع التطور المجتمعي وحركة التاريخ ورده الى عامل واحد ووحيد وتجاهل بقية العناصر الفاعلة في الحركة التاريخ ينتج معه نسبة التحولات الكبرى الى مجموعة من الاسباب السطحية غير الموضوعية مما يؤثر على تصورات الحل في المراحل التالية...
6. ازدواجية المعايير :
مثلا (واسوق هنا المثال السابق للمرة الرابعة) فان الموقف الرافض للمرحلة الناصرية من الليبراليين على سبيل المثال تنازل بها من "ثورة" الى "حركة تصحيحية داخل الجيش" الى "انقلاب عسكري" الى "استيلاء لحفنة من صغار الضباط على السلطة تحت شعارات رنانة" كما ان الشعب لم يكن طرفا اساسيا فيها وانما كان طرفا تابعا...هذا بالرغم من كل التحولات الكبرى التى احدثتها تلك الحفنة من صغار الضباط في تاريخ مصر الحديث...
والشاهد انه (وبصرف النظر عن تقييم ما اذا كانت حركة الضباط الاحرار ثورة او غير ذلك) الا ان ذلك الموقف الرافض اتخذ موقفا معاكسا من كل التجارب المشابه لثورة 1952...(ثورة احمد عرابي عام 1881....الثورة الروسية البلشفية عام 1917...بل وحتى ثورة الساات التصحيحية عام 1971) وجميعها بقيادة "حفنة" وكانت تهدف الى "الاستيلاء على السلطة" وجميعها "تحت شعارات رنانة" وجميعها "كان الشعب فيها طرفا تابعا"...
7. ضعف وقلة الوعي بالتاريخ وعدم الربط بين وقائعه:
مثلا (وباعتبار الاسلام يوم ان جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ثورة بالمعنى السياسي) فانه قال لعمرو بن العاص"يا عمرو اما علمت ان الاسلام يجب ما قبله من الذنوب" وراه مسلم والمعنى متكرر في القرآن الكريم ايضا (قال تعالى "قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِين" الأنفال38) في اشارة الى تلك القطيعة مع الماضي واعتباره كان لم يكن...
والشاهد انه تم تجاهل ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال ايضا "خياركم في الجاهلية خياركم في الاسلام اذا فقهوا" رواه البخاري...كما ان صلى الله عليه وسلم شارك قبل البعثة في حلف الفضول (وهو من أشهر الأحلاف عند العرب قبل الإسلام وقصة الحلف أن عشائر من قريش اجتمعت وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته. فقالت قريش هذا فضول من الحلف ، فسمي حلف الفضول)... وقد قال عنه صلى الله عليه وسلم " قد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت " رواه البيهقي والحُميدي...
اي ان القطيعة لا تكون الا مع ما لا يتناسب والحالة الجديدة بعد الدين (الثورة) وليست قطيعة كاملة دونما تمييز...
(وفي كل الامثلة السابقة فانه لا سبيل الى الحديث في هذه اللحظة التاريخية عن الرئيس المخلوع...اذ انه لايزال حتى هذه اللحظة طرفا في الصراع مع الثورة وهذا ما يضعه في حالة "الماضي" وليس حالة "التاريخ")
واجمالا لما سبق...فان الحالة الثورية وفي سبيل نجاحها وتحقيق اهدافها تعززمواقعها بمجموعة من الاجراءات من بينها عملية نقد قد تنحرف بها الى عملية نقض لتاريخها مما قد يحدث قطيعة كاملة معه وليس مع امور لا تتناسب وحالتها الثورية...وتتجلى خطورة عملية نقض التاريخ تلك في (الخلط بين العام والخاص و اسبقية المنهج الرؤية على الصالح العام و التعميم و النظرة المفارقة للتاريخ و السطحية و غياب مفهوم العقل النقدي و ازدواجية المعايير و ضعف وقلة الوعي بالتاريخ وعدم الربط بين وقائعه) اذ يصبح الهدف الغاء التاريخ المتراكم ككل او تشويهه وازاحته من الذاكرة الجماعية للشعب الواحد او بقاءه في صورة عاطفية هشة على اكثر تقدير بدعوى تصحيح مسار الشعب...وهي بذلك تصنع مستقبلا بلا جذور في ماضيها اوحاضرها وبالتالي ليس له مناعة طبيعية او ذاتيه تجاه تلك المجتمعات التي تصنع مستقبلها من وحي تاريخها وليس من خلال الانقضاض عليه...
وفيما يتعلق بالثورة المضادة...فان اكبر خدمة يقدمها الشعب المصري الى القوى الاقليمية و الدولية لتحقق متطلباتها في مصر والعالم العربي والاسلامي من ورائها ان يتخلى طواعية عن مجمل ما تراكم في تاريخه الحديث من ايجابيات وسلبيات..ذلك انه بذلك يسلم اهم سلاح لديه وهو عقله...فكما ان للانسان عقل وارادة وبصيرة..فان للشعوب عقل هو تاريخها و ارادة هي حاضرها و بصيرة هي مستقبلها....
ونخلص من ذلك...الى ان نقد التاريخ واجب...اما نقضه فمحظور...
اي ان دعوات و شعارات من نوع:
"ان ثورة ال25 من يناير هي اول ثورة حقيقية في تاريخ مصر" او "ان هذه اول مرة يسترد فيها الشعب المصري حريته من ستين عاما" او "ان هذه الثورة في قطيعة مع كل ما قبها" او "ان افة مجتمعاتنا هي زعماؤنا"..او "ان العلم المصري هو رمز للنظام السابق" ..او.. او كلها مما هو نقض للتاريخ على جملته...كما انها محض انفعال و افتعال....
اي ان الطلوب هو نقد ثوري وليس تائري ولا ثأري....
لكن ذلك...له حديث آخر...